فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وأمّا منْ أُوتِى كتابه بِشِمالِهِ فيقول يا ليتنى ليْتنِى لمْ أُوت كتابيه}
والذين يؤتون كتابهم بشمائلهم: هم المخلدون في النار أهل الكفر فيتمنون أن لو كانوا معدومين لا يجري عليهم شيء، وقوله تعالى: {يا ليتها كانت القاضية} إشارة إلى موتة الدنيا، أي ليتها لم يكن بعدها رجوع ولا حياة، وقوله تعالى: {ما أغنى} يحتمل أن يريد الاستفهام على معنى التقرير لنفسه والتوبيخ، ويحتمل أن يريد النفي المحض، و(السلطان) في الآية: الحجة على قول عكرمة ومجاهد، قال بعضهم ونحا إليه ابن زيد ينطق بذلك ملوك الدنيا الكفرة، والظاهرة عندي أن سلطان كل أحد حاله في الدنيا من عدد وعدد، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه». {خُذُوهُ فغُلُّوهُ (30)}
المعنى يقول الله تعالى أو الملك بأمره للزبانية: خذوه واجعلوا على عنقه غلا، قال ابن جرير: نزلت في أبي جهل، و{ذرعها} معناه مبلغ أذرع كيلها، وقد جعل الله تعالى السبعمائة والسبعين والسبعة مواقف ونهايات لأشياء عظام، فذلك مشي البشر: العرب وغيرهم على أن يجعلوها نهايات، وهذه السلسلة من الأشياء التي جعل فيها السبعين نهاية. وقرأ السدي: {ذرعها سبعين} بالياء، وهذا على حذف خبر الابتداء، واختلف الناس في قدر هذا الذرع، فقال محمد بن المنكدر وابن جرير وابن عباس: هو بذراع الملك، وقال نوف البكالي وغيره: الذراع سبعون باعا في كل باع كما بين الكوفة ومكة، وهذا يحتاج إلى سند، وقال حذاق من المفسرين: هي بالذراع المعروفة هنا، وإنما خوطبنا بما نعرفه ونحصله، وقال الحسن: الله أعلم بأي ذراع هي: وقال السويد بن نجيح في كتاب الثعلبي: إن جميع أهل النار في تلك السلسلة، وقال ابن عباس: لو وضع حلقة منها على جبل لذاب كالرصاص، وقوله تعالى: {فاسلكوه} معناه: ادخلوه، ومنه قول أبي وجزة السعدي يصف حمر وحش: البسيط:
حتى سلكن الشوى منهن في مسك ** من نسل جوابة الآفاق مهداج

وروي أن هذه السلسلة تدخل في فم الكافر وتخرج من دبره فهي في الحقيقة التي سلك فيها لكن الكلام جرى مجرى قولهم: أدخلت فمي في الحجر والقلنسوة في رأسي، وروي أن هذه السلسلة تلوى حول الكافر حتى تغمه وتضغطه، فالكلام على هذا على وجهه وهو المسلوك، وقوله تعالى: {ولا يحض على طعام المسكين} المراد به: {ولا يحض على} إطعام {طعام المسكين}، وأضاف (الطعام) إلى {المسكين} من حيث له إليه نسبة ما وخصت هذه الخلة من خلال الكافر بالذكر لأنها من أضر الخلال في البشر إذا كثرت في قوم هلك مساكنهم، واختلف المتأولون في قوله: {حميم}، فقال جمهور من المفسرين: هو الصديق اللطيف المودة، فنفى الله تعالى أن يكون للكافر هنالك من يواليه، ونفى أن يكون له طعام {إلا من غسلين}، وقال محمد بن المستنير: (الحميم) الماء السخن، فكأنه تعالى أخبر أن الكافر ليس له ماء ولا شيء مائع {ولا طعام إلا من غسلين}، و(الغسلين) فيما قال اللغويون: ما يجري من الجراح إذا غسلت، وقال ابن عباس: هو صديد أهل النار. وقال قتادة وابن زيد: الغسلين والزقوم أخبث شيء وأبشعه، وقال الضحاك والربيع: هو شجر يأكله أهل النار، وقال بعض المفسرين: هو شيء من ضريع النار، لأن الله تعالى قد أخبر أنهم ليس لهم طعام {إلا من غسلين}، وقال في أخرى:
{من ضريع} [الغاشية: 6] فهما شيء واحد أو اثنان متداخلان، ويحتمل أن يكون الإخبار هنا عن طائفة وهناك عن طائفة، ويكون الغسلين والضريع متباينين على ما يفهم منهما في لسان العرب وخبر ليس في به، قال المهدوي: ولا يصح أن يكون هاهنا.
قال القاضي أبو محمد: وقد يصح أن يكون هنا ذلك إن شاء الله، والخاطئ: الذي يفعل ضد الصواب متعمدا والمخطئ الذي يفعله غير متعمد، وقرأ الحسن والزهري {الخاطيون} بالياء دون همز، وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنه: {الخاطُون} بضم الطاء دون همز، وقوله تعالى: {فلا أقسم}، قال بعض النحاة {لا} زائدة والمعنى: فأقسم، وقال آخرون منهم: {لا} رد لما تقدم من أقوال الكفار، والبداءة {أقسم} وقرأ الحسن بن أبي الحسن: {فلأقسم}، لام القسم معها ألف أقسم، وقوله تعالى: {بما تبصرون وما لا تبصرون}. قال قتادة بن دعامة: أراد الله تعالى أن يعمم في هذا القسم جميع مخلوقاته. وقال غيره: أراد الأجساد والأرواح. وهذا قول حسن عام، وقال ابن عطاء: {ما تبصرون}، من آثار القدرة {وما لا تبصرون} من أسرار القدرة، وقال قوم: أراد بقوله: {وما لا تبصرون} الملائكة والرسول الكريم جبريل في تأويل جماعة من العلماء، ومحمد صلى الله عليه وسلم في قول آخرين وأضيف القول إليه من حيث تلاه وبلغه.
{وما هُو بِقول شاعِرٍ قلِيلا ما تُؤْمِنُون (41)}
نفى الله تعالى أن يكون القرآن من {قول شاعر} كما زعمت قريش، ونصب {قليلا} بفعل مضمر يدل عليه {تؤمنون}، و{ما} يحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة، ويحتمل أن تكون مصدرية ويتصف بالقلة، إما الإيمان وإما العدد الذي يؤمنون، فعلى اتصاف إيمانهم بالقلة فهم الإيمان اللغوي لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا إذ كانوا يصدقون أن الخير والصلة والعفاف الذي كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حق صواب، ثم نفى تعالى أن يكون {قول كاهن} كما زعم بعضهم، وقرأ ابن كثير وابن عامر والحسن والجحدري: {قليلا ما يؤمنون} و{قليلا ما يذكرون} بالياء جميعا. وقرأ الباقون: بالتاء من فوق، ورجح أبو عامر قراءة التاء بقوله تعالى: {فما منكم من أحد} وفي مصحف أبيّ بن كعب {ما تتذكرون} بتاءين، و{تنزيل} رفع بالابتداء، أي هو {تنزيل}، ثم أخبر تعالى أن محمدا لو تقول عليه شيئا لعاقبه بما ذكر، والتقول: أن يقول الإنسان عن آخر أنه قال شيئا لم يقله. وقرأ ذكوان وابنه محمد: {ولو يقول} بالياء وضم القاف، وهذه القراءة معرضة بما صرحت به قراءة الجمهور، ويبين التعريض قوله {علينا بعض الأقاويل}، وقوله تعالى: {لأخذنا منه باليمين} اختلف في معناه، فقال ابن عباس: {باليمين}، بالقوة ومعناه: لنلنا منه عقابه بقوة منا، أو يكون المعنى: لنزعنا قوته، وقال آخرون: هي عبارة عن الهوان، كما يقال لمن يسجن أو يقام لعقوبة قد أخذ بيده وبيمينه، و{الوتين}: نياط القلب، قاله ابن عباس وهو عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر، ومنه قول الشماخ: الوافر:
إذا بلغتني وحملت رحلي ** عرادة فاشرقي بدم الوتين

فمعنى الآية لأذهبنا حياته معجلا، والحاجز: المانع، وجمع {حاجزين} على معنى {أحد} لأنه يقع على الجميع، ونحوه قوله عليه السلام: «ولم تحل الغنائم لأحد سوى الرؤوس قبلكم». والضمير في قوله تعالى: {وإنه لتذكرة} عائد على القرآن، وقيل على محمد صلى الله عليه وسلم، وفي قوله تعالى: {وإنا لنعلم أن منكم مكذبين} وعيد وكونه {لحسرة على الكافرين} هو من حيث كفروا ويرون من آمن به ينعم وهم يعذبون، وقوله تعالى: {لحق اليقين} ذهب الكوفيون إلى أنها إضافة الشيء إلى نفسه كدار الآخرة ومسجد الجامع. وذهب البصريون والحذاق إلى أن الحق مضاف إلى الأبلغ من وجوهه، وقال المبرد: إنما هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين. ثم أمر تعالى نبيه بالتسبيح باسمه العظيم. وفي ضمن ذلك الاستمرار على رسالته والمضي لأدائها وإبلاغها، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: «اجعلوها في ركوعكم» واستحب التزام ذلك جماعة من العلماء، وكره مالك لزوم ذلك لئلا يعد واجبا فرضا. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{فلا أُقْسِمُ} أي فأُقسِمُ على أنّ لا مزيدةٌ للتأكيدِ وأمّا حملُهُ على معْنى نفيِ الإقسامِ لظهورِ الأمرِ واستغنائِهِ عن التحقيقِ فيردُّه تعيينُ المقسمِ بهِ بقوله تعالى: {بِما تُبْصِرُون * وما لا تُبْصِرُون} كما مرّ في سورةِ الواقعةِ أي أقسمُ بالمُشاهداتِ والمغيباتِ وقيل بالدُّنيا والآخرةِ وقيل بالأجسامِ والأرواحِ والإنسِ والجِنِّ والخلقِ والخالقِ والنعمِ الظاهرةِ والباطنةِ، والأولُ منتظمٌ للكلِّ {أنّهُ} أيِ القرآن {لقول رسُولٍ} يبلغُهُ عن الله تعالى فإنّ الرسول لا يقول عن نفسِهِ {كرِيمٌ} على الله تعالى وهو النبيُّ أو جبريلُ عليهما السّلامُ {وما هُو بِقول شاعِرٍ} كما تزعمون تارة {قلِيلا مّا تُؤْمِنُون} إيمانا قليلا تؤمنون {ولا بِقول كاهِنٍ} كما تدّعُون ذلك تارة أُخرى {قلِيلا مّا تذكّرُون} أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تتذكرون على أنّ القلة بمعْنى النّفي أيْ لا تُؤمنون ولا تتذكرون أصْلا، قيل ذُكِر الإيمانُ مع نفي الشاعريةِ والتذكرُ مع نفي الكاهنيةِ لما أنّ عدم مشابهةِ القرآن الشعر أمرٌ بينٌ لا يُنكرهُ إلا معاندٌ بخلافِ مباينتِهِ للكهانةِ فإنّها تتوقفُ على تذكرِ أحوالِهِ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ ومعانِي القرآن المنافيةِ لطريقةِ الكهنةِ ومعانِي أقوالِهِم، وأنتُ خبيرٌ بأنّ ذلك أيضا مما لا يتوقفُ على تأملٍ قطعا وقرئ بالياءِ فيهما {تنزِيلٌ مّن رّبّ العالمين} نزلّهُ على لسانِ جبريل عليه السلام {ولوْ تقول عليْنا بعْض الاقاويل} سُمِّي الافتراءُ تقولا لأنّه قول متكلفٌ والأقوالُ المُفتراةُ أقاويلُ تحقيرا لها كأنّها جمعُ أُفْعُولةٍ من القول كالأضاحيكِ، جمعُ أُضْحوكةٍ.
{لأخذْنا مِنْهُ باليمين} أي بيمينِهِ {ثُمّ لقطعْنا مِنْهُ الوتين} أي نياط قلبِهِ بضربِ عنقِهِ وهو تصويرٌ لإهلاكِهِ بأفظعِ ما يفعلُهُ الملوكُ بمن يغضبون عليهِ وهو أنْ يأخد القتّالُ بيمينه ويكفحُه بالسيفِ ويضرب عُنقهُ وقيل اليمينُ بمعنى القوةِ قال قائلُهُم:
إِذا ما رايةٌ رُفِعتْ لِمجْد ** تلقّاها عُرابةُ باليمينِ

{فما مِنكُم} أيُّها الناسُ {مّنْ أحدٍ عنْهُ} عن القتلِ أو المقتولِ {حاجزين} دافعين وصفٌ لأحدٍ فإنّهُ عامٌّ {وإِنّهُ} أي وإنّ القرآن {لتذْكِرةٌ لّلْمُتّقِين} لأنهم المنتفعون بهِ {وإِنّا لنعْلمُ أنّ مِنكُم مُّكذّبِين} فنجازيهم على تكذيبِهِم {وإِنّهُ لحسْرةٌ على الكافرين} عند مشاهداتِهِم لثوابِ المؤمنين {وإِنّهُ لحقُّ اليقين} الذي لا يحومُ حولهُ ريبٌ ما {فسبّحْ باسم ربّك العظيم} أي فسبحْ بذكرِ اسمهِ العظيمِ تنزيها لهُ عن الرِّضا بالتقول عليهِ وشكرا على ما أُوحِي إليك. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {الحاقة ما الحاقة}
وهو اسم من أسماء القيامة، ومعناه القيامة ما القيامة؟ تعظيما لأمرها.
وقال قتادة في قوله: {الحاقة} يعني: حقت لكل قوم أعمالهم يعني: حقت للمؤمنين أعمالهم وللكافرين أعمالهم من حق يحق، إذا صح.
وذكر عن الفراء أنه قال: إنما قيل لها الحاقة، لأن فيها حواق الأمور.
يقال: لقد حق عليك الشيء، أي وجب.
ثم قال: {وما أدْراك ما الحاقة} يعني: ما تدري أي يوم هو، تعظيما لأمرها.
ثم وصف القيامة في قوله: {فإِذا نُفِخ في الصور}.
ثم ذكر من كذب بالساعة والقيامة، وما نزل بهم، فقال: {كذّبتْ ثمُودُ وعادٌ بالقارعة} يعني: كذبت قوم صالح وقوم هود بالقيامة.
وإنما سميت قارعة، لأنها تقرع قلوب الخلق.
ثم أخبر عن عقوبتهم في الدنيا، فقال: {فأمّا ثمُودُ فأُهْلِكُواْ بالطاغية} يعني: بطغيانهم، ومعناه وطغيانهم حملهم على التكذيب، فأهلكوا.
ويقال: أهلكوا بالرجفة الطاغية، كما قال في قصته {بِرِيحٍ صرْصرٍ عاتِيةٍ} يعني: عتت على خزانها، فذلك قوله: {وأمّا عادٌ فأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صرْصرٍ عاتِيةٍ} يعني: باردة يعني: شديدة البرد {سخّرها عليْهِمْ} يعني: سلطها عليهم {سبْع ليالٍ وثمانية أيّامٍ حُسُوما} يعني: دائمة متتابعة.
ويقال: {عاتِيةٍ} يعني: شديدة {حُسُوما} يعني: كاملة دائمة لا يفتر عنهم.
وقال القتبي: {حُسُوما} أي: متتابعة.
وأصله من حسم الداء، لأنه يكون مرة بعد مرة.
{فترى القوم فِيها صرعى} يعني: في الريح؛ ويقال: في الأيام؛ ويقال: في القرية.
{صرعى} يعني: موتى؛ ويقال: هلكى؛ ويقال: قلعى مطروحين.
{كأنّهُمْ أعْجازُ نخْلٍ خاوِيةٍ} يعني: منقلعة ساقطة.
وروى شهر بن حوشب، عن ابن عباس قال: ما أنزل الله تعالى قطرة من ماء إلا بمثقال، ولا شعرة من الريح إلا بمكيال، إلا يوم عاد ونوح.
وأما الريح فعتت على خزائنها يوم عاد، فلم يكن لهم عليها سبيل.
وأما الماء، طغى على خزانة يوم نوح، فلم يكن لهم عليه سبيلا، كما قال الله تعالى: {إِنّا لمّا طغى الماء} [الحاقة: 11] الآية.
ثم قال عز وجل: {فهلْ ترى لهُم مّن باقِيةٍ}؟ يعني: لم يبق أحدا منهم.
ثم قال عز وجل: {وجاء فِرْعوْنُ ومن قبْلهُ}.
قرأ أبو عمرو، والكسائي، {ومن قبله} بكسر القاف ونصب الياء الموحدة، يعني: ظهر فرعون وأتباعه وأشياعه؛ والباقون بنصب القاف وجزم الباء يعني: من تقدمه من عتاب الكفار.
ثم قال: {والمؤتفكات بِالْخاطِئةِ} يعني: قريات قوم لوط، يعني: جاء فرعون وقوم لوط بالخاطئة يعني: بالشرك وبأعمالهم الخبيثة.
{فعصوْاْ رسُول ربّهِمْ} يعني: كذبوا رسلهم، {فأخذهُمْ أخْذة رّابِية} يعني: عاقبهم الله عقوبة شديدة.
ثم قال عز وجل: {إِنّا لمّا طغى الماء} يعني: طغى على خزانة يوم نوح، كما روي عن ابن عباس.
ويقال: طغى الماء، أي ارتفع؛ ويقال في اللغة: طغى الشيء، إذا ارتفع جدا.
وقال قتادة: إنه طغى فوق كل شيء خمسة عشر ذراعا.
{حملناكم في الجارية} يعني: السفينة، ومعناه: حين غرق الله تعالى قوم نوح، حملناكم يا محمد في السفينة في أصلاب آبائكم.
{لِنجْعلها لكُمْ تذْكِرة} يعني: لنجعل هلاك قوم نوح لكم عبرة لتعتبروا بها.
{وتعِيها أُذُنٌ واعية} يعني: يسمع هذا الخبر أذن سامعة، ويحفظها قلب حافظ على معنى الإضمار.
ثم رجع إلى أول السورة فقال: {فإِذا نُفِخ في الصور نفْخةٌ واحدة} يعني: نفخ إسرافيل في الصور نفخة واحدة.
ثم قال: {وحُمِلتِ الأرض والجبال} يعني: قلعت ما على الأرض من نباتها وشجرها، وحملت الجبال عن أماكنها.
{فدُكّتا دكّة واحدة} يعني: فضربت على الأرض مرة واحدة؛ وهذا قول مقاتل، وقال الكلبي: يعني: رفعت الأرض والجبال فزلزلتا زلزلة واحدة.
ويقال: فدكتا دكة واحدة أي: كسرتا كسرة واحدة.
{فيوْمئِذٍ وقعتِ الواقعة} يعني: في ذلك اليوم قامت القيامة.
{وانشقت السماء} يعني: انفرجت السماء بنزول الملائكة.
{فهِى يوْمئِذٍ واهِيةٌ} يعني: ضعيفة منشقة متمزقة من الخوف.
{والملك على أرْجائِها} يعني: الملائكة على نواحيها وأطرافها، يعني: صفوف الملائكة حول العرش {ويحْمِلُ عرْش ربّك فوْقهُمْ} يعني: فوق الخلائق.
{يوْمئِذٍ ثمانية} يعني: ثمانية أجزاء من المقربين، لا يعلم كثرة عددهم إلا الله.
وروى عطاء بن السائب، عن ميسرة في قوله: {ويحْمِلُ عرْش ربّك فوْقهُمْ يوْمئِذٍ ثمانية} يعني: ثمانية من الملائكة، أرجلهم في تخوم الأرض السابعة وقال وهب بن منبه: أربعة من الملائكة يحملون العرش على أكتافهم، لكل واحد منهم أربعة وجوه: وجه ثور، ووجه أسد، ووجه إنسان.
روى الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب في قوله تعالى: {ويحْمِلُ عرْش ربّك فوْقهُمْ يوْمئِذٍ ثمانية}.
ثم قال عز وجل: {يوْمئِذٍ تُعْرضُون} أي: تساقون إلى الحساب والقصاص وقراءة الكتب؛ ويقال: {تُعْرضُون} على الله تعالى، كقوله: {وعُرِضُواْ على ربِّك صفا لّقدْ جِئْتُمُونا كما خلقناكم أوّل مرّةٍ بلْ زعمْتُمْ ألّن نّجْعل لكُمْ مّوْعِدا} [الكهف: 48] ثم قال: {لا تخفى مِنكُمْ خافِيةٌ} يعني: لا يخفى على الله منكم ولا من أعمالكم شيء.
قرأ حمزة، والكسائي {لا يخفى}، والباقون بالتاء بلفظ التأنيث، لأن لفظ {خافية} مؤنث.
ومن قرأ بالياء، انصرف إلى المعنى يعني: لا يخفى منكم خاف، والهاء ألحقت للمبالغة.
ثم قال عز وجل: {فأمّا منْ أُوتِى كتابه بِيمِينِهِ} يعني: كتابه الذي عمله، فرأى فيه الحسنات فسر بذلك، {فيقول} لأصحابه: {هاؤُمُ} يعني: تعالوا {اقرؤا كتابيه}.
قال القتبي: {هاؤُمُ} في اللغة بمنزلة خذ وتناول؛ ويقال للاثنين: هاؤما، وللجماعة هاؤموا.
والأصل هاكم، فحذفوا الكاف وأبدلوها همزة.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: بلغني أنهم يعرضون ثلاث عرضات.
فأما عرضتان، فهما الخصومات والمعاذير.
وأما الثالثة، فتطاير الصحف في الأيدي.
وروى عبد الله بن مسعود نحو هذا.
ثم قال: {إِنّى ظننتُ أنّى ملاق حِسابِيهْ} يعني: أيقنت وعلمت أني أحاسب.
قال الله تعالى: {فهُو في عِيشةٍ رّاضِيةٍ} يعني: في عيش مرضي، {فِى جنّةٍ عالِيةٍ} يعني: مرتفعة.
{قُطُوفُها دانِيةٌ} يعني: اجتناء ثمارها قريب، يعني: شجرها قريب يتناوله القائم والقاعد، فيقال لهم: {كُلُواْ واشربوا هنِيئا} يعني: كلوا من ثمار الجنة واشربوا من شرابها هينئا يعني: طيبا بلا داء، ويقال: حلال لا إثم فيه.
{بِما أسْلفْتُمْ} يعني: بما عملتم وقدمتم {فِى الايام الخالية} يعني: في الدنيا.
ويقال: بما عملتم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية، يعني: في الدنيا.
{وأمّا منْ أُوتِى كتابه بِشِمالِهِ} روي عن ابن عباس أنه قال: الآية الأولى نزلت في أبي سلمة بن عبد الأسد، وهذه الآية في الأسود بن عبد الأسد، ويقال: في جميع المؤمنين وفي جميع الكفار.
{فيقول ياليتنى لمْ أُوت كتابيه} يعني: لم أعط كتابيه، {ولمْ أدْرِ ما حِسابِيهْ} يعني: لم أعلم ما حسابي.
قوله تعالى: {حِسابِيهْ ياليتها كانتِ القاضية}، يا ليتني تركت على الموتة الأولى بين النفختين، ويقال: {حِسابِيهْ ياليتها كانتِ القاضية} يعني: المنية.
قال مقاتل: يتمنى الموت.
{ما أغنى عنّى مالِيهْ} يعني: ما أرى ينفعني مالي الذي جمعت في الدنيا.
{هلك عنّى سلطانيه} يعني: بطل عني عذرِي وحجتي.
يقول الله تعالى: {خُذُوهُ فغُلُّوهُ} يعني: بالأغلال الثّقال.
{ثُمّ الجحيم صلُّوهُ} يعني: أدخلوه.
{ثُمّ في سِلْسِلةٍ ذرْعُها سبْعُون ذِراعا فاْسْلُكُوهُ} يعني: أدخلوه في تلك السلسلة.
{إِنّهُ كان لا يُؤْمِنُ بالله العظيم} يعني: لا يصدق بالله العظيم.
{ولا يحُضُّ} يعني: لا يحث نفسه ولا غيره {على طعامِ المسكين} يعني: لا يطعم المسكين في الدنيا.
{فليْس لهُ اليوم هاهنا حمِيمٌ} يعني: قريب يمنع منه شيئا، يعني: أحدا يمنع من العذاب.
{ولا طعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ} يعني: ليس له فيها طعام إلا من غسلين.
وروى عكرمة، عن ابن عباس قال: لا أدري ما الغسلين.
وروي عنه أنه قال: الغسلين: ما يسقط عن عروقهم، وذاب من أجسادهم.
وقال القتبي: هو فعلين من غسلت فكأنه غسالة.
{لاّ يأْكُلُهُ إِلاّ الخاطئون} يعني: المشركين.
وروى عكرمة، عن ابن عباس: أن رجلا قرأ عنده: {لاّ يأْكُلُهُ إِلاّ الخاطئون} وقال ابن عباس: كلنا نخطئ، ولكن {لاّ يأْكُلُهُ إِلاّ الخاطئون} يعني: العاصين الكافرين.
ثم قال: {فلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُون} يعني: أقسم بما تبصرون من شيء ومن الخلق.
{وما لا تُبْصِرُون} من الخلق.
{إِنّهُ لقول رسُولٍ كرِيمٍ} يعني: هذا القرآن قول رسول كريم على الله تعالى يعني: جبريل، وهذا قول مقاتل.
ويقال: قول رسول كريم، يعني: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم.
قال أبو العالية: إنه يعني: القرآن، لقول: رسول كريم يقرأ عليك يا محمد.
ويقال: معناه إن الذي ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، ويقرؤه عليه جبريل الكريم على الله تعالى، ليس الشياطين كما يقولون؛ {وما هُو بِقول شاعِرٍ} يعني: القرآن ليس هو بقول شاعر.
{قلِيلا مّا تُؤْمِنُون} يعني: قليلا ما تؤمنون.
{وما} صلة.
قرأ ابن كثير، وابن عامر في رواية هشام {قلِيلا مّا يُؤْمِنُون} بالياء {الآيات لِقوْمٍ يذّكّرُون} بالياء، والباقون بالتاء على معنى المخاطبة.
ثم قال: {ولا بِقول كاهِنٍ} يعني: ليس بقول كاهن، ليس بقول شيطان أي: عراف كاذب.
{قلِيلا مّا تذكّرُون} يعني: قليلا ما تتعظون.
ثم قال عز وجل: {تنزِيلٌ مّن رّبّ العالمين} يعني القرآن هو كلام رب العالمين أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال: {ولوْ تقول عليْنا بعْض الاقاويل} يعني: أن محمد صلى الله عليه وسلم لو قال من ذات نفسه، {لاخذْنا مِنْهُ باليمين} يعني: لعاقبناه.
فأعلم الله تعالى أنه لا محاباة لأحد، إذا عصاه بالقرآن، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى قوله: {باليمين} يعني: بالقوة.
وقال القتبي: إنما قام اليمين مقام القوة، لأن قوة كل شيء في يمينه.
ولأهل اللغة في هذا مذاهب أخر، وهو قولهم إذا أرادوا عقوبة أحد، فيقولون: خذ بيده، وافعل به كذا وكذا.
قال الله تعالى: لو كذب علينا لأمرنا بالأخذ بيده ثم عاقبناه.
ويقال: {لوْ تقول عليْنا بعْض الاقاويل} معناه: لو زاد حرفا واحدا على ما أوحيته إليه أو نقص، لعاقبته.
وكان هو أكرم الناس عليّ.
وفي الآية تنبيه لغيره، لكيلا يغيروا شيئا من كتاب الله تعالى، ولا يتقولوا فيه شيئا من ذات أنفسهم.
ويقال: {باليمين} يعني: بالحق.
ويقال: بالحجة.
{ثُمّ لقطعْنا مِنْهُ الوتين} وهو عرق يتعلق به القلب، إذا انقطع مات صاحبه، يعني: لأهلكناه.
{فما مِنكُم مّنْ أحدٍ عنْهُ حاجزين} يعني: ليس أحد منكم يمنعنا من عذابه.
{وأنّهُ} يعني: القرآن {لتذْكِرةٌ لّلْمُتّقِين} يعني: عظة للذين يتقون الشرك والفواحش.
{وإِنّا لنعْلمُ أنّ مِنكُم مُّكذّبِين} يعني: وإنا لنعلم أن منكم أيها المؤمنون مكذبون بالقرآن، يعني: المنافقين.
ثم قال عز وجل: {وإِنّهُ لحسْرةٌ على الكافرين} يعني: إن هذا القرآن ندامة على الكفارين يوم القيامة، لأنه يقال لهم: ألم يقرأ عليكم القرآن؟ فيكون لهم حسرة وندامة بترك الإيمان.
{وإِنّهُ لحقُّ اليقين} يعني: إن تلك الندامة لحق اليقين.
ويقال: إن القرآن من الله تعالى حقا يقينا.
{فسبّحْ باسم ربّك العظيم} يعني: صل لله تعالى.
ويقال: سبحه باللسان؛ والله تعالى أعلم والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. اهـ.